- نُشر في
الرقص المعاصر العربي: تطور وإبداع في فن الحركة
- المؤلفون
- الاسم
- محمد العربي
- تويتر
- @arabicartblog
الرقص المعاصر العربي: تطور وإبداع في فن الحركة
يشهد العالم العربي في السنوات الأخيرة نهضة ملحوظة في مجال الرقص المعاصر، مع ظهور جيل جديد من الفنانين الذين يسعون إلى تطوير لغة حركية خاصة تجمع بين التراث العربي الغني والتقنيات المعاصرة. هذا الفن الذي كان لفترة طويلة مهمشاً في المشهد الثقافي العربي، أصبح اليوم يحظى باهتمام متزايد، ويشكل منصة للتعبير عن قضايا الهوية والمجتمع والسياسة. في هذا المقال، نستعرض مشهد الرقص المعاصر العربي، وأبرز الفرق والراقصين، والاتجاهات الفنية السائدة، والتحديات التي تواجه هذا الفن في سياقنا الثقافي.
جذور الرقص المعاصر في العالم العربي
بين التراث والحداثة
يعود ظهور الرقص المعاصر في العالم العربي إلى منتصف القرن العشرين، متأثراً بحركات الرقص الحديث في أوروبا وأمريكا. لكن ما يميز التجربة العربية هو سعيها الدائم للتوفيق بين الأشكال المعاصرة والتراث الغني من الرقصات الشعبية والتقليدية.
يقول الناقد الفني أحمد فرغلي: "الرقص المعاصر العربي لا ينطلق من فراغ، بل يتفاعل مع تراث حركي غني وممتد لآلاف السنين، من الرقصات الشعبية المختلفة إلى فنون الأداء التقليدية. ما يفعله الراقصون المعاصرون هو إعادة قراءة هذا التراث بأدوات وحساسيات معاصرة."
الرواد والمؤسسون
من أبرز رواد الرقص المعاصر في العالم العربي نذكر:
- محمود رضا (مصر): الذي أسس فرقة رضا للفنون الشعبية في الخمسينيات، ووضع أساساً لحركة الرقص المسرحي الحديث في مصر.
- وليد عوني (لبنان): مؤسس فرقة "كركلا" في 1968، التي مزجت بين الفولكلور العربي وتقنيات الرقص المعاصر.
- حسن الجريتلي (مصر): مؤسس فرقة "الورشة" في التسعينيات، والتي قدمت تجارب رائدة في مجال الرقص المعاصر.
هؤلاء الرواد مهدوا الطريق لجيل جديد من الراقصين والمصممين الذين يواصلون تطوير هذا الفن وتوسيع آفاقه.
المشهد المعاصر: الفرق والمبدعون
الفرق العربية الرائدة
يتميز مشهد الرقص المعاصر العربي اليوم بمجموعة من الفرق المبدعة التي تقدم رؤى فنية متنوعة، منها:
فرقة "سرايا" للرقص المعاصر (مصر): تأسست عام 2005 على يد الراقصة والمصممة كريمة منصور، وتتميز بأعمال تستلهم من التراث المصري والعربي، مع التركيز على قضايا المرأة والمجتمع. من أبرز أعمالها "أصوات صامتة" (2018) و"حدود" (2022).
فرقة "مدى" للرقص المعاصر (لبنان): أسسها المصمم عمر رجح عام 2012، وتقدم أعمالاً تتناول قضايا الهوية والصراع والذاكرة في السياق اللبناني والعربي. من أشهر عروضها "أنقاض" (2019) الذي يتناول آثار الحرب والدمار على الجسد والمكان.
فرقة "الأنفاس" (المغرب): تأسست عام 2010 بقيادة الراقصة والمصممة نورة عامر، وتتميز بدمج عناصر من التصوف والرقص الأمازيغي في لغتها الحركية المعاصرة. قدمت أعمالاً مثل "ذكر" (2017) و"بين العوالم" (2021).
فرقة "زقاق" (فلسطين): تأسست عام 2011 في رام الله، وتضم راقصين من خلفيات مختلفة يعملون على تطوير لغة حركية تعبر عن التجربة الفلسطينية المعاصرة. من أعمالها "رقصة على الحدود" (2020) و"الوطن المتخيل" (2023).
راقصون ومصممون بارزون
إلى جانب الفرق الجماعية، برز عدد من الراقصين والمصممين الفرديين الذين تركوا بصمتهم على مشهد الرقص المعاصر العربي:
هناء حامد (مصر): راقصة ومصممة تعمل بين القاهرة وباريس، اشتهرت بأعمال مثل "جسر" و"ضفاف" التي تستكشف العلاقة بين الجسد والفضاء العام.
أكرم خان (بريطاني من أصول بنغلاديشية): رغم أنه ليس عربياً، فقد كان له تأثير كبير على مشهد الرقص في المنطقة من خلال تعاونه مع فنانين عرب وتقديمه لأعمال تستلهم من التراث الشرقي.
ريم حجاب (الأردن): مصممة رقصات مقيمة في عمّان، تقدم أعمالاً تتناول قضايا الهوية والنوع الاجتماعي في السياق العربي.
سامي الهواري (الجزائر/فرنسا): مصمم رقصات يعمل بين الجزائر وفرنسا، قدم أعمالاً تستكشف الهجرة والذاكرة الاستعمارية، مثل "أجساد منسية" و"عبور".
الاتجاهات الفنية والموضوعات المعاصرة
استلهام التراث بنظرة معاصرة
يتميز الرقص المعاصر العربي بتوجه قوي نحو استلهام التراث الثقافي العربي وإعادة تفسيره برؤية معاصرة. يظهر هذا في أعمال تستلهم من:
- الرقصات الشعبية مثل التحطيب المصري والدبكة الشامية والعلاوي المغربي.
- الطقوس الصوفية والدينية مثل حلقات الذكر والسماع.
- الأشكال الفنية التقليدية مثل خيال الظل والحكواتي.
يقول المصمم وليد عوني: "التراث ليس متحفاً نزوره، بل هو كائن حي يتطور ويتجدد مع كل جيل. دورنا كفنانين معاصرين هو التحاور مع هذا التراث وإثراؤه، لا تجميده أو تقديسه."
التعبير عن قضايا سياسية واجتماعية
يتناول الرقص المعاصر العربي بجرأة قضايا سياسية واجتماعية ملحة، ويستخدم الجسد كأداة للتعبير والاحتجاج. من القضايا البارزة:
- الهوية والانتماء في عالم متغير.
- الحرب والصراع وآثارهما على المجتمعات العربية.
- الهجرة واللجوء والشتات.
- حقوق المرأة والأقليات.
- الرقابة وحرية التعبير.
تقول الراقصة والمصممة نورا عامر: "الجسد في مجتمعاتنا مثقل بالمحرمات والقيود. عندما نرقص، فإننا نعيد امتلاك أجسادنا ونحررها، ونواجه السلطات والتابوهات التي تسعى إلى السيطرة عليها."
التفاعل مع الفنون الأخرى والتكنولوجيا
يتميز الرقص المعاصر العربي بانفتاحه على التجريب والتفاعل مع الفنون الأخرى والتكنولوجيا الحديثة. نرى ذلك في:
- عروض تدمج الرقص مع الفنون البصرية والفيديو.
- استخدام التكنولوجيا الرقمية والواقع المعزز في العروض.
- تعاون الراقصين مع موسيقيين وفنانين تشكيليين وشعراء.
من الأمثلة البارزة على هذا التوجه مشروع "أجساد رقمية" الذي قدمته فرقة "مدى" اللبنانية عام 2023، ودمجت فيه تقنيات الموشن كابتشر مع الرقص الحي.
المهرجانات والمنصات
المهرجانات المتخصصة
ساهم ظهور عدد من المهرجانات المتخصصة في الرقص المعاصر في تطوير هذا الفن وإتاحة الفرصة للفنانين لعرض أعمالهم والتواصل مع الجمهور. من أبرز هذه المهرجانات:
- مهرجان القاهرة الدولي للرقص المعاصر والمسرح التجريبي: تأسس عام 1988، ويقام سنوياً في القاهرة.
- مهرجان بيروت الدولي للرقص المعاصر: انطلق عام 2004، ويستضيف فرقاً عربية وعالمية.
- مسرح الرقص بالدار البيضاء: تأسس عام 2010، ويقدم منصة للفرق المغربية والإفريقية.
- أيام عمان للرقص المعاصر: تأسس عام 2009، ويقام كل عامين في العاصمة الأردنية.
مراكز التدريب والإنتاج
تلعب مراكز التدريب والإنتاج دوراً مهماً في تطوير مشهد الرقص المعاصر العربي، من خلال توفير مساحات للتدريب وورش العمل والإنتاج. من أبرز هذه المراكز:
- استوديو عماد (مصر): تأسس عام 2000 في القاهرة، ويعد من أقدم الفضاءات المستقلة المخصصة للرقص المعاصر.
- مركز الرقص المعاصر "مدى" (لبنان): يقدم برامج تدريبية وإقامات فنية للراقصين والمصممين.
- رواق الفنون الأدائية (الأردن): يركز على تطوير الفنون الحركية ويقدم منحاً للمشاريع الناشئة.
- مركز الرقص الخليجي (الإمارات): تأسس عام 2017 في دبي، ويهدف إلى تطوير حركة الرقص المعاصر في منطقة الخليج.
التحديات والعقبات
التحديات الاجتماعية والدينية
يواجه الرقص المعاصر في العالم العربي تحديات متعددة، أبرزها:
- النظرة الاجتماعية المحافظة تجاه الرقص عموماً، خاصة بالنسبة للنساء.
- الخطاب الديني المتشدد الذي يرفض بعض أشكال التعبير الجسدي.
- الفجوة بين المدن الكبرى والمناطق الأقل حضرية في قبول هذا الفن.
تقول الراقصة المصرية كارمن توكل: "نواجه باستمرار أسئلة حول 'لماذا ترقصون؟' و'هل هذا فن مستورد؟' نحاول دائماً أن نوضح أن الرقص جزء أصيل من ثقافتنا، وأن ما نقدمه هو تطوير لتراث عريق وليس استيراداً لأشكال غربية."
تحديات التمويل والاستدامة
يعاني قطاع الرقص المعاصر من:
- ضعف التمويل الحكومي للفنون المعاصرة عموماً والرقص خصوصاً.
- الاعتماد الكبير على التمويل الأجنبي، مما يثير أحياناً أسئلة حول الاستقلالية الفنية.
- صعوبة بناء جمهور واسع ومستدام يضمن استمرارية العروض والإنتاجات.
يقول المخرج والمنتج محمد الغزالي: "التحدي الأكبر الذي نواجهه هو الاستدامة. كيف نبني مشهداً فنياً لا يعتمد فقط على المنح والتمويل الخارجي، بل على علاقة حقيقية مع الجمهور المحلي وبنية تحتية متينة."
قضايا التدريب والتعليم
من التحديات المهمة أيضاً:
- نقص المؤسسات التعليمية المتخصصة في الرقص المعاصر.
- قلة المدربين المؤهلين والمناهج التعليمية المتطورة.
- صعوبة الاعتراف بالرقص كتخصص أكاديمي في معظم الجامعات العربية.
تجارب ناجحة ونماذج ملهمة
حالات دراسية
رغم التحديات، هناك تجارب ناجحة استطاعت أن تحقق نجاحات محلية وإقليمية وحتى عالمية:
فرقة "سرايا" المصرية
تمكنت الفرقة بقيادة كريمة منصور من بناء جمهور وفي ومتابع في مصر، وتقديم عروض منتظمة، والمشاركة في مهرجانات عالمية. يعود نجاح الفرقة إلى:
- تقديم أعمال تستلهم من التراث المصري وتخاطب قضايا محلية.
- العمل على برامج تعليمية وورش موازية للعروض.
- بناء شراكات مع مؤسسات ثقافية محلية ودولية.
مشروع "رقص وسط البلد" (الأردن)
مبادرة أطلقتها الراقصة ريم حجاب عام 2015 لإخراج الرقص المعاصر من المسارح التقليدية إلى الفضاءات العامة في عمّان. نجحت المبادرة في:
- خلق حوار مباشر بين الراقصين والجمهور العام.
- تحدي الصور النمطية عن الرقص في المجتمع الأردني.
- إشراك مجتمعات محلية في عملية الإبداع.
الوصول للعالمية
حقق عدد من الفنانين العرب نجاحات عالمية لافتة، منهم:
- هناء حامد التي عرضت أعمالها في مهرجان أڤينيون الشهير ومسرح سادلرز ويلز في لندن.
- فرقة "الأنفاس" المغربية التي جالت بعروضها في أوروبا وأمريكا وحصلت على جوائز دولية.
- مشروع "بين الصحاري والبحر" الذي جمع راقصين من تونس وفلسطين والجزائر، وعرض في مهرجانات عالمية مرموقة.
مستقبل الرقص المعاصر العربي
اتجاهات واعدة
رغم التحديات، يمكن رصد اتجاهات إيجابية تبشر بمستقبل واعد للرقص المعاصر العربي:
- تزايد اهتمام الجيل الشاب بهذا الفن، وظهور مواهب جديدة في مختلف البلدان العربية.
- تطور البنية التحتية الثقافية في بعض المدن العربية، مع افتتاح مراكز ثقافية ومسارح جديدة.
- ظهور منصات رقمية تساهم في توثيق ونشر أعمال الرقص المعاصر وتوسيع جمهوره.
- تنامي الاهتمام الأكاديمي بدراسة الرقص المعاصر العربي كظاهرة فنية وثقافية.
دور التكنولوجيا والعولمة
تلعب التكنولوجيا والعولمة دوراً متزايداً في تشكيل مستقبل الرقص المعاصر العربي:
- وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية تتيح للفنانين الوصول إلى جماهير جديدة.
- التقنيات الجديدة تفتح آفاقاً للتجريب والابتكار في العروض.
- التعاون الدولي يزداد سهولة، مما يتيح تبادل الخبرات والتجارب.
تقول المصممة لينا مجدلاني: "رغم كل القيود، نعيش اليوم في عصر يتيح للفنانين فرصاً غير مسبوقة للتواصل والتعلم والمشاركة. الراقص العربي المعاصر لم يعد معزولاً، بل هو جزء من حوار عالمي، وهذا يفتح آفاقاً جديدة للإبداع والتطور."
خاتمة
يمثل الرقص المعاصر العربي مساحة حيوية للتعبير الفني والثقافي، تتحدى الصور النمطية وتستكشف قضايا الهوية والمجتمع بجرأة وإبداع. رغم التحديات المتعددة التي يواجهها، استطاع هذا الفن أن يحقق إنجازات مهمة في العقود الأخيرة، وأن يفتح آفاقاً جديدة للتعبير الحركي في السياق الثقافي العربي.
ما زال الطريق طويلاً أمام تطور هذا الفن وترسيخه في المشهد الثقافي العربي، لكن المؤشرات الإيجابية تبشر بمستقبل واعد، خاصة مع ظهور جيل جديد من الفنانين الذين يجمعون بين الوعي بالتراث والانفتاح على العالم، ويسعون إلى تطوير لغة حركية معاصرة تعبر عن هويتهم وقضاياهم بأصالة وإبداع.
في النهاية، يبقى الرقص المعاصر العربي تعبيراً عن حاجة إنسانية أساسية للتعبير بالجسد، وعن إرادة مجتمعات تسعى إلى تجديد ثقافتها والتعبير عن تطلعاتها في عالم متغير.
المراجع والمصادر
- كتاب "الرقص المعاصر في العالم العربي: تحولات الجسد والهوية" - د. نورا أمين (2023)
- مجلة "فنون الأداء" - العدد الخاص عن الرقص العربي المعاصر (2024)
- مقابلات شخصية مع راقصين ومصممين عرب
- وثائق وأرشيفات مهرجانات الرقص المعاصر في المنطقة العربية
- دراسات أكاديمية عن الرقص المعاصر في سياق ما بعد الاستعمار