نُشر في

السينما العربية المعاصرة: أصوات جديدة واعتراف عالمي

المؤلفون

السينما العربية المعاصرة: أصوات جديدة واعتراف عالمي

تشهد السينما العربية في السنوات الأخيرة نهضة حقيقية وانطلاقة جديدة نحو العالمية، حيث بدأت الأفلام العربية تحظى باهتمام متزايد في المهرجانات الدولية الكبرى، وتنال جوائز مرموقة، وتجد طريقها إلى منصات البث العالمية. هذه النهضة ليست وليدة اللحظة، بل هي امتداد لتاريخ غني من الإبداع السينمائي العربي، مع إضافة رؤى وأساليب جديدة تعكس واقع المجتمعات العربية المعاصرة وتطلعاتها.

في خضم التحولات العميقة التي تشهدها المنطقة العربية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، برزت السينما كأداة قوية للتعبير عن هذه التحولات وتوثيقها والتفكير فيها. لم تعد السينما العربية مجرد وسيلة للترفيه، بل أصبحت منصة للحوار المجتمعي، ومرآة تعكس التناقضات والتحديات التي تواجه المجتمعات العربية، ونافذة يطل منها العالم على واقع هذه المجتمعات بعيداً عن الصور النمطية والتغطيات الإخبارية السطحية.

يقول المخرج المصري المخضرم يسري نصر الله: "السينما العربية اليوم تعيش مرحلة مخاض عسير ولكنه مثمر. هناك جيل جديد من السينمائيين يمتلك الجرأة والأدوات والرؤية لطرح الأسئلة الصعبة وتحدي المسلمات، وهذا ما يجذب الاهتمام العالمي إلى أعمالهم."

من "باس يا بحر" إلى الأوسكار: تطور السينما العربية

يعتبر فيلم "باس يا بحر" (البحر القاسي) للمخرج الكويتي الراحل خالد الصديق، الذي أُنتج عام 1972، نقطة تحول مهمة في تاريخ السينما العربية. فهو لم يكن مجرد أول فيلم روائي طويل لمخرج خليجي، بل كان أيضًا عملًا رائدًا في السينما الواقعية الاجتماعية التي كسرت الأنماط السائدة آنذاك في السينما المصرية التي كانت تهيمن على المشهد السينمائي العربي.

منذ ذلك الحين، مرت السينما العربية بمراحل متعددة من التطور، وصولًا إلى ما يشهده العقدان الأخيران من انطلاقة جديدة على المستوى العالمي. فيلا شفيق، الباحثة في تاريخ السينما العربية ومؤلفة ثلاثة كتب في هذا المجال، تشير إلى أن "السينما العربية المعاصرة أصبحت قادرة على مخاطبة الجمهور العالمي من خلال معالجتها لقضايا إنسانية مشتركة، مع الاحتفاظ بخصوصيتها الثقافية."

مهرجانات السينما في الخليج: محرك أساسي للنهضة

لعبت المهرجانات السينمائية التي أُطلقت في منطقة الخليج العربي دورًا محوريًا في دعم وتطوير السينما العربية المعاصرة. مهرجان دبي السينمائي الدولي (2004-2018)، ومهرجان أبوظبي السينمائي (2007-2015)، ومهرجان الدوحة ترايبيكا السينمائي (2009-2012)، بالإضافة إلى مهرجانات خليجية أصغر، كلها ساهمت في تقديم منصات للمواهب السينمائية الناشئة وفرصًا للتمويل والإنتاج.

تقول نادية إليوات، المنتجة والكاتبة الأردنية التي كانت جزءًا من فريق فيلم "ذيب" الحائز على جوائز عالمية: "لقد جعلت هذه المهرجانات من الممكن للسينمائيين العرب أن يلتقوا ببعضهم البعض ويتعاونوا، وهي فرص لم تكن متاحة من قبل."

مؤسسة الدوحة للأفلام ومبادرتها للمنح، التي لا تزال قائمة بإدارة المنتج الجزائري خليل بن كيران، تعتبر المثال الأقوى على هذا الدعم. فمنذ إطلاقها عام 2010، ساعدت المؤسسة في تمويل ما يقارب 700 فيلم قصير وطويل باللغة العربية، حصل العديد منها على اعتراف دولي لاحقًا:

  • فيلم "واجب" (2017) للمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر، الذي رُشح من فلسطين لجائزة أفضل فيلم أجنبي في حفل الأوسكار 2018.
  • فيلم "صوفيا" (2018) للمخرجة المغربية مريم بن مبارك علوي، الذي فاز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان السينمائي.
  • فيلم "ستموت في العشرين" (2019) للمخرج السوداني أمجد أبو العلا، الذي رُشح لجائزة أفضل فيلم دولي في حفل الأوسكار 2021.
  • فيلم "ذيب" (2014) للمخرج الأردني ناجي أبو نوار، الذي كان أول فيلم أردني يُرشح للأوسكار.

السعودية: عملاق سينمائي ناشئ

شهدت السنوات الأخيرة تحولًا كبيرًا في المشهد السينمائي السعودي، حيث رفعت المملكة الحظر عن دور السينما وبدأت في تشجيع صناع الأفلام المحليين على الإبداع. منذ عام 2018، حلت السعودية محل الإمارات كأكبر سوق لشباك التذاكر في غرب آسيا، وفقًا لشركة كومسكور لقياس وسائل الإعلام.

على عكس دبي، حيث تميل شباك التذاكر نحو الأفلام الهوليودية بسبب السكان المغتربين، كان الفيلم الأعلى إيرادًا في السعودية عام 2021 هو "وقفة رجالة" من مصر، تلته كوميديتان مصريتان هما "مش أنا" و"ماما حامل".

مهرجان البحر الأحمر السينمائي، الذي انطلق في جدة عام 2019 (وتأجلت دورته الأولى إلى نوفمبر 2021 بسبب الجائحة العالمية)، هو أحدث المهرجانات التي جذبت اهتمامًا دوليًا، وستقام دورته الثانية في الأسبوع الأول من ديسمبر.

نحو جمهور عالمي: دور المنصات الرقمية

أتاحت منصات البث الرقمي العالمية، مثل نتفليكس وأمازون، فرصًا جديدة للأفلام العربية للوصول إلى جمهور عالمي. تقول نادية إليوات: "المنصات رائعة للأفلام الصغيرة، فهي تسمح لنا بالإنتاج بشكل أسرع والحصول على تمويل أسرع."

شاهد-MBC، منصة بث المحتوى العربي التي انطلقت من دبي عام 2008، تبث أفلامًا جديدة وكلاسيكية لـ 27 مليون مشاهد شهريًا، من بين خيارات أخرى للأفلام والوثائقيات والعروض التلفزيونية ومحتوى الأطفال. وقد بدأت شاهد-MBC مؤخرًا في تضمين محتوى دولي مع شركات شريكة على منصتها لجذب سوق أوسع، لكنها تواجه منافسة من شبكة أوربت شوتايم البحرينية وأمازون ونتفليكس، التي تقوم بشكل متزايد بالاستحواذ على أفلام باللغة العربية أو إنتاجها مشتركة لمنصاتها.

قصص عربية بنكهة عالمية: نماذج للنجاح

"كفرناحوم" - لبنان

فيلم "كفرناحوم" (2018) للمخرجة اللبنانية نادين لبكي، الذي رشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، يعد مثالًا بارزًا على النجاح العالمي للسينما العربية المعاصرة. الفيلم، الذي يروي قصة طفل يقاضي والديه لإنجابه في عالم مليء بالبؤس، حصل على تصفيق حاد لمدة 15 دقيقة في مهرجان كان، وفاز بجائزة لجنة التحكيم هناك.

"ذيب" - الأردن

فيلم "ذيب" (2014) للمخرج ناجي أبو نوار، الذي يدور حول صبي بدوي يجد نفسه في رحلة خطرة عبر الصحراء أثناء الحرب العالمية الأولى، حقق نجاحًا كبيرًا في المهرجانات العالمية، وفاز بجائزة أفضل مخرج في قسم "نظرة ما" في مهرجان فينيسيا، قبل أن يصبح أول فيلم أردني يترشح للأوسكار.

"ستموت في العشرين" - السودان

فيلم "ستموت في العشرين" (2019) للمخرج أمجد أبو العلا، الذي يحكي قصة شاب سوداني يعيش تحت وطأة نبوءة بأنه سيموت عندما يبلغ العشرين من عمره، فاز بجائزة أسد المستقبل في مهرجان فينيسيا، وكان أول فيلم سوداني يترشح لجائزة الأوسكار.

مخرجون عرب يصنعون الفارق

هيفاء المنصور - السعودية

تعد هيفاء المنصور واحدة من أبرز المخرجات في العالم العربي. فيلمها "وجدة" (2012) يعتبر أول فيلم روائي طويل يتم تصويره بالكامل في السعودية، وقد عرض في مهرجان سندانس السينمائي، مما مهد الطريق لمزيد من الاعتراف الدولي بالسينما السعودية.

نادين لبكي - لبنان

تعتبر نادين لبكي من أهم المخرجات في العالم العربي والعالم بأسره. أفلامها "سكر بنات" (2007)، "هلأ لوين" (2011)، و"كفرناحوم" (2018) حققت نجاحًا كبيرًا في المهرجانات العالمية، وتميزت بمعالجتها الجريئة للقضايا الاجتماعية في لبنان والعالم العربي.

آن ماري جاسر - فلسطين

تعد آن ماري جاسر من أبرز المخرجات الفلسطينيات، وقد حققت أفلامها "ملح هذا البحر" (2008)، "لما شفتك" (2012)، و"واجب" (2017) نجاحًا كبيرًا في المهرجانات الدولية، وتميزت بمعالجتها للهوية الفلسطينية والحياة اليومية تحت الاحتلال.

تحديات وآفاق مستقبلية

رغم النجاحات المتزايدة للسينما العربية، لا تزال هناك تحديات كبيرة تواجهها:

  • التمويل: لا يزال الحصول على تمويل كافٍ للأفلام العربية يمثل تحديًا كبيرًا، خاصة للمخرجين الناشئين.
  • الرقابة: تظل قيود الرقابة في بعض الدول العربية عائقًا أمام حرية التعبير الفني.
  • التوزيع: رغم انتشار منصات البث الرقمي، لا يزال توزيع الأفلام العربية محدودًا مقارنة بالأفلام الهوليودية.

لكن الآفاق المستقبلية للسينما العربية تبدو واعدة، مع تزايد الاهتمام العالمي بالقصص والرؤى العربية، وتطور البنية التحتية للإنتاج السينمائي في المنطقة، وظهور جيل جديد من المخرجين الموهوبين.

يقول طلال المهنا، منتج وثائقي مستقل من الكويت: "هناك قصص ثرية للغاية يمكن روايتها من هذه المنطقة، وصانعو الأفلام العرب لن يختفوا في أي وقت قريب."

السينما العربية والنسوية: صوت المرأة يرتفع

تشهد السينما العربية المعاصرة بروزاً لافتاً للمخرجات النساء اللواتي يقدمن رؤى جديدة وجريئة حول قضايا المجتمع بشكل عام وقضايا المرأة بشكل خاص. لم تعد المرأة مجرد موضوع للتصوير السينمائي، بل أصبحت صانعة للصورة ومتحكمة في السرد.

تقول المخرجة الفلسطينية مي المصري: "هناك قصص نسائية كثيرة في مجتمعاتنا لم تُروَ بعد، أو رُويت بطريقة مشوهة. دورنا كمخرجات هو استعادة هذه القصص وروايتها من منظورنا الخاص، دون وصاية أو رقابة ذكورية."

من الأفلام البارزة في هذا السياق:

  • "نورا تحلم" (2019) للمخرجة التونسية هند بوجمعة، الذي يتناول قضية قانون "الطاعة الزوجية" في تونس.
  • "17" (2017) للمخرجة الجزائرية صوفيا جاما، الذي يستكشف حياة فتاة مراهقة في الجزائر.
  • "بين الجنة والأرض" (2019) للمخرجة الفلسطينية نجوى نجار، الذي يتناول قضايا الهوية والانتماء من منظور نسوي.

تقول الناقدة السينمائية ريم سلطان: "المخرجات العربيات يقدمن اليوم سينما مختلفة، ليس فقط في موضوعاتها، بل في أسلوبها وجمالياتها وطريقة تناولها للشخصيات والمساحات. إنها سينما تتحدى السائد وتفتح آفاقاً جديدة للتعبير."

السينما العربية في عصر الرقمنة: تحديات وفرص

مع التحول العالمي نحو المنصات الرقمية، تواجه السينما العربية تحديات جديدة وفرصاً غير مسبوقة. من جهة، تهدد هيمنة منصات البث العملاقة التنوع الثقافي وخصوصية الإنتاج المحلي، ومن جهة أخرى، توفر هذه المنصات فرصة للوصول إلى جمهور عالمي لم يكن متاحاً في السابق.

يقول المنتج المصري محمد حفظي: "المنصات الرقمية سلاح ذو حدين. هي تفتح أبواباً جديدة للتوزيع والتمويل، لكنها أيضاً تفرض معاييرها وذائقتها الخاصة، مما قد يؤثر على استقلالية المخرجين وحريتهم الإبداعية."

ويضيف: "التحدي الأكبر هو كيفية الاستفادة من هذه المنصات مع الحفاظ على الهوية والخصوصية الثقافية للسينما العربية. نحن بحاجة إلى استراتيجيات وطنية وإقليمية لدعم الإنتاج المستقل وضمان التنوع."

من جانبها، ترى المخرجة اللبنانية نادين لبكي أن الرقمنة فتحت آفاقاً جديدة: "منصات مثل نتفليكس وأمازون تتيح لأفلامنا الوصول إلى مشاهدين في أقصى بقاع الأرض. هذا يعني أن قصصنا وقضايانا تصل إلى جمهور أوسع بكثير، وهذا بحد ذاته إنجاز مهم."

خاتمة

تشهد السينما العربية المعاصرة فترة تاريخية من النمو والاعتراف العالمي، مدفوعة بجيل جديد من صناع الأفلام المبدعين الذين يجمعون بين الهوية العربية الأصيلة والرؤى السينمائية العالمية. إن نجاح أفلام مثل "كفرناحوم" و"ذيب" و"ستموت في العشرين" ليس مجرد إنجاز فردي للمخرجين والمنتجين، بل هو انتصار للثقافة العربية وقدرتها على مخاطبة الجمهور العالمي من خلال الفن السابع.

مع استمرار تطور البنية التحتية للإنتاج والتوزيع السينمائي في العالم العربي، وتزايد الاهتمام العالمي بالقصص المتنوعة، يبدو مستقبل السينما العربية أكثر إشراقًا من أي وقت مضى، واعدًا بمزيد من الإبداع والتأثير على الساحة السينمائية العالمية.

"السينما العربية المعاصرة أصبحت قادرة على كسر الصور النمطية وتقديم صورة أكثر تعقيدًا وواقعية عن المجتمعات العربية. نحن نشهد بداية عصر ذهبي جديد للسينما العربية، عصر تتعدد فيه الأصوات والرؤى، وتتجاوز فيه السينما حدود الترفيه لتصبح أداة للتغيير الاجتماعي والثقافي." - د. خالد فهمي، ناقد سينمائي ومؤرخ للسينما العربية